فصل: سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الحرب بين دبيس بن مزيد وعسكر واسط:

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دبيس بن مزيد وبين الأتراك الواسطيين.
وسبب ذلك أن الملك الرحيم أقطع نور الدولة حماية نهر الصلة، ونهر الفضل، وهما من إقطاع الواسطيين، فسار إليهما ووليهما، فسمع عسكر واسط ذلك فسخطوه، واجتمعوا وساروا إلى نور الدولة ليقاتلوه ويدفعوه عنهما، وأرسلوا إليه يتهددونه، فأعاد الجواب يقول: إن الملك أقطعني هذا، فنرسل إليه أنا وأنتم، فبأي شيء أمر رضينا به. فسبوه، وساروا مجدين إليه، فأرسل إلى طريقهم طائفة من عسكره، فلقوهم، وكمن لهم، فلما التقوا استجرهم العرب إلى أن جاوزوا الكمين، وخرج عليهم الكمين فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأسروا كثيراً، وجرح مثلهم، وتمت الهزيمة على الواسطيين، وغنم نور الدولة أموالهم ودوابهم وساروا إلى واسط فنزلوا بالقرب منها.
وأرسل الواسطيون إلى بغداد يستنجدون جندها، ويبذلون للبساسيري أن يدفع عنهم نور الدولة، ويأخذ نهر الصلة ونهر الفضل لنفسه.

.ذكر وفاة مودود بن مسعود وملك عمه عبد الرشيد:

في هذه السنة، في العشرين من رجب، توفي أبو الفتح مودود بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وعمره تسع وعشرون سنة، وملكه تسع سنين وعشرة أشهر، وكان موته بغزنة، وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد، ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر، وبذل لهم الأموال الكثيرة، وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم، فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار، صاحب أصبهان، فإنه جمع عساكره وسار في المفازة، فهلك كثير من عسكره، ومرض وعاد.
ومنهم خاقان ملك الترك، فإنه سار إلى ترمذ، ونهب وخرب، وصادر أهل تلك الأعمال، وسارت طائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم.
وسار مودود من غزنة، فلم يسر غير مرحلة واحدة حتى عارضه قولنج اشتد عليه، فعاد إلى غزنة مريضاً، وسير وزيره أبا الفتح عبد الرزاق بن أحمد الميمندي إلى سجستان في جيش كثيف لأخذها من الغز، واشتدت العلة بمودود فتوفي، وقام في الملك بعده ولده، فبقي خمسة أيام ثم عدل الناس عنه إلى عمه علي بن مسعود، وكان مودود لما ملك قبض على عمه عبد الرشيد ابن محمود وسجنه في قلعة ميدين، بطريق بست، فلما توفي كان وزيره قد قارب هذه القلعة، فنزل عبد الرشيد إلى العسكر ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة، فلما قاربها هرب عنها علي بن مسعود، وملك عبد الرشيد، واستقر الأمر له، ولقب شمس دين الله سيف الدولة، وقيل جمال الدولة، ودفع الله شر مودود عن داود، وهذه السعادة التي تقتل الأعداء بغير سلاح ولا أجناد.

.ذكر استيلاء البساسيري على الأنبار:

في هذه السنة أيضاً، في ذي القعدة، ملك البساسيري الأنبار، ودخلها أصحابه.
وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم، فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار، فأجابهم إلى ذلك، وسير معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار، ولحقهم البساسيري وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم، ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه، وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.

.ذكر انهزام الملك الرحيم من عسكر فارس:

في هذه السنة عاد الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز في ذي القعدة، فلما وصل إلى وادي الملح لقيه عسكر فارس، واقتتلوا قتالاً شديداً، فغدر بالملك الرحيم بعض عسكره، وانهزم هو وجميع العسكر، ووصل إلى بصنى ومعه أخوه أبو سعد وأبو طالب، وسار منها إلى واسط، وسار عسكر فارس إلى الأهواز، فملكوها وخيموا بظاهرها.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها وصل عسكر من مصر إلى حلب، وبها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس، فخالفهم لكثرتهم، فانصرف عنها، فملكها المصريون.
وفيها، في ذي القعدة، ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلاً،! فزادت ظلمتها على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضطرمة، وهبت معها ريح شديدة قلعت رواشن دار الخليفة، وشاهد الناس من ذلك ما أزعجهم وخوفهم، فلزموا الدعاء والتضرع، فانكشفت في باقي الليل.
وفيها، في شعبان، سار البساسيري من بغداد إلى طريق خراسان، وقصد ناحية الدزدار وملكها وغنم ما فيها، وكان سعدي بن أبي الشوك قد ملكها، وقد عمل لها سوراً وحصنها، وجعلها معقلاً يتحصن فيه، ويدخر بها كل ما يغنمه، فأخذه البساسيري جميعه.
وفيها منع أهل الكرخ من النوح، وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس، ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم، فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنة من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين، وأخرج الطائفتان في العمارة مالاً جليلاً، وجرت بينهما فتن كثيرة، وبطلت الأسواق، وزاد الشر، حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به، وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر، فسمع أهل الجانب الغربي ذلك، فاجتمع السنة والشيعة على المنع منه، وأذنوا في القلائين وغيرها بحي على خير العمل، وأذنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم، وأظهروا الترحم على الصحابة، فبطل عبوره.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري الحافظ، كان إماماً صحب عبد الغني بن سعيد، وتخرج به، ومن تلامذته الخطيب أبو بكر.
وفيها توفي الملك العزيز أبو بكر منصور بن جلال الدولة، وقد ذكرنا تنقل الأحوال به فيما تقدم، وله شعر حسن.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن العتيقي، نسب إلى جد له يسمى عتيقاً، ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب ابن أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي، وكانت شهادته سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقبلها القاضي في بيت النوبة، ولم يفعل ذلك مع غيره، وإنما فعل معه هذا احتراماً لأبيه. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة:

.ذكر ملك طغرلبك أصبهان:

كان أبو منصور بن علاء الدولة، صاحب أصبهان، غير ثابت على طريقة واحدة مع السلطان طغرلبك، كان يكثر التلون معه، تارة يطيعه وينحاز إليه، وتارة ينحرف عنه ويطيع الملك الرحيم، فأضمر له طغرلبك سوءاً، فلما عاد هذه الدفعة من خراسان لأخذ البلاد الجبلية من أخيه إبراهيم ينال، واستولى عليها، على ما ذكرناه، عدل إلى أصبهان عازماً على أخذها من أبي منصور، فسمع ذلك، فتحصن ببلده، واحتمى بأسواره، ونازله طغرلبك في المحرم، وأقام على محاصرته نحو سنة، وكثرت الحروب بينهما، إلا أن طغرلبك قد استولى على سواد البلد، وأرسل سرية من عسكره نحو فارس، فبلغوا إلى البيضاء، فأغاروا على السواد هناك وعادوا غانمين.
ولما طال الحصار على أصبهان، وأخرب أعمالها، ضاق الأمر بصاحبها وأهلها، وأرسلوا إليه يبذلون له الطاعة والمال، فلم يجبهم إلى ذلك، ولم يقنع منهم إلا بتسليم البلد، فصبروا حتى نفدت الأقوات، وامتنع الصبر، وانقطعت المواد، واضطر الناس حتى نقضوا الجامع، وأخذوا أخشابه لشدة الحاجة إلى الحطب، فحيث بلغ بهم الحال إلى هذا الحد خضعوا له واستكانوا، وسلموا البلد إليه فدخله وأخرج أجناده منه وأقطعهم في بلاد الجبل، وأحسن إلى الرعية، وأقطع صاحبها أبا منصور ناحيتي يزد وأبرقوية، وتمكن من أصبهان ودخلها في المحرم من سنة ثلاث وأربعين واستطابها، ونقل ما كان له بالري من مال وذخائر وسلاح إليها، وجعلها دار مقامه، وخرب قطعة من سورها، وقال: وإنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قوته، فأما من حصنه عساكره وسيفه فلا حاجة به إليها.

.ذكر عود عساكر فارس من الأهواز وعود الرحيم إليها:

في هذه السنة، في المحرم، عادت عساكر فارس التي مع الأمير أبي منصور صاحبها عن الأهواز إلى فارس.
وسبب هذا العود أن الأجناد اختلفوا، وشغبوا، واستطالوا وعاد بعضهم إلى فارس بغير أمر صاحبهم، وأقام بعضهم معه، وسار بعضهم إلى الملك الرحيم، وهو بالأهواز، يطلبونه ليعود إليهم، فعاد فيمن عنده من العساكر، وأرسل إلى بغداد يأمر العساكر التي فيها بالحضور عنده ليسير بهم إلى فارس، فلما وصل إلى الأهواز لقيه العساكر مقرين بالطاعة، وأخبروه بطاعة عساكر فارس، وأنهم ينتظرون قدومه، فدخل الأهواز في شهر ربيع الآخر، فتوقف بالأهواز ينتظر عساكر بغداد، ثم سار عنها إلى عسكر مكرم فملكها وأقام بها.

.ذكر استيلاء زعيم الدولة على مملكة أخيه قرواش:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، استولى زعيم الدولة أبو كامل بركة ابن المقلد على أخيه قرواش، وحجر عليه، ومنعه من التصرف على اختياره.
وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له، فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه، وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده.
ثم أرسل إليه نفراً من أعيان يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة، ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك، والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم، فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه، وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً، فأمنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة، وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.

.ذكر استيلاء الغز على مدينة فسا:

وفيها، في جمادى الأولى، سار الملك ألب أرسلان بن داود أخي طغرلبك من مدينة مرو بخراسان، وقصد بلاد فارس في المفازة، فلم يعلم به أحد، ولا أعلم عمه طغرلبك، فوصل إلى مدينة فسا، فانصرف النائب بها من بين يديه، ودخلها ألب أرسلان فقتل من الديلم بها ألف رجل، وعدداً كثيراً من العامة، ونهبوا ما قدره ألف ألف دينار، وأسروا ثلاثة آلاف إنسان، وكان الأمر عظيماً. فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى خراسان، ولم يلبثوا خوفاً من طغرلبك أن يرسل إليهم، ويأخذ ما غنموه منهم.

.ذكر استيلاء الخوارج على عمان:

في هذه السنة استولى الخوارج المقيمون بجبال عمان على مدينة تلك الولاية.
وسبب ذلك أن صاحبها الأمير أبا المظفر ابن الملك أبي كاليجار كان مقيماً بها، ومعه خادم له قد استولى على الأمور، وحكم على البلاد، وأساء السيرة في أهلها، فأخذ أموالهم، فنفروا منه وأبغضوه.
وعرف إنسان من الخوارج يقال له ابن راشد الحال، فجمع من عنده منهم فقصد المدينة، فخرج إليه الأمير أبو المظفر في عساكره، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الخوارج وعادوا إلى موضعهم.
وأقام ابن راشد مدة يجمع ويحتشد، ثم سار ثانياً، وقاتله الديلم فأعانه أهل البلد لسوء سيرة الديلم فيهم، فانهزم الديلم، وملك ابن راشد البلد وقتل الخادم وكثيراً من الديلم، وقبض على الأمير أبي المظفر وسيره إلى جباله مستظهراً عليه، وسجن معه كل من خط بقلم من الديلم، وأصحاب الأعمال، وأخرب دار الإمارة، وقال: هذه أحق دار بالخراب! وأظهر العدل، وأسقط المكوس، واقتصر على رفع عشر ما يرد إليهم وخطب لنفسه، وتلقب بالراشد بالله، ولبس الصوف، وبنى موضعاً على شكل مسجد، وقد كان هذا الرجل تحرك أيضاً أيام أبي القاسم بن مكرم فسير إليه أبو القاسم من منعه وحصره وأزال طمعه.

.ذكر دخول العرب إلى إفريقية:

في هذه السنة دخلت العرب إلى إفريقية.
وسبب ذلك أن المعز بن باديس كان خطب للقائم بأمر الله الخليفة العباسي وقطع خطبة المستنصر العلوي، صاحب مصر، سنة أربعين وأربعمائة، فلما فعل ذلك كتب إليه المستنصر العلوي يتهدده، فأغلظ المعز في الجواب.
ثم إن المستنصر استوزر الحسن بن علي اليازوري، ولم يكن من أهل الوزارة، إنما كان من أهل التبانة والفلاحة، فلم يخاطبه المعز كما كان يخاطب من قبله من الوزراء، كان يخاطبهم بعبده فخاطب اليازوري بصنيعته، فعظم ذلك عليه، فعاتبه فلم يرجع إلى ما يحب، فأكثر الوقيعة في المعز، وأغرى به المستنصر، وشرعوا في إرسال العرب إلى الغرب، فأصلحوا بني زغبة ورياح، وكان بينهم حروب وحقود، وأعطوهم مالاً، وأمروهم بقصد بلاد القيروان، وملكوهم كل ما يفتحونه، ووعدوهم بالمدد والعدد. فدخلت العرب إلى إفريقية، وكتب اليازوري إلى المعز: أما بعد، فقد أرسلنا إليكم خيولاً فحولاً. وحملنا عليها رجالاً كهولاً. ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ** فلما حلوا أرض برقة وما والاها وجدوا بلاداً كثيرة المرعى خالية من الأهل لأن زناتة كانوا أهلها، فأبادهم المعز، فأقامت العرب بها واستوطنتها، وعاثوا في أطراف البلاد.

وبلغ ذلك المعز فاحتقرهم، وكان المعز لما رأى تقاعد صنهاجة عن قتال زناتة اشترى العبيد، وأوسع لهم في العطاء، فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك. وكانت عرب زغبة قد ملكت مدينة طرابلس سنة ست وأربعين، فتتابعت رياح والأثبج وبنو عدي إلى إفريقية، وقطعوا السبيل وعاثوا في الأرض، وأرادوا الوصول إلى القيروان، فقال مؤنس بن يحيى المرداسي: ليس المبادرة عندي برأي، فقالوا: كيف تحب أن تصنع؟ فأخذ بساطاً فبسطه، ثم قال لهم: من يدخل إلى وسط البساط من غير أن يمشي عليه؟ قالوا: لا نقدر على ذلك! قال: فهكذا القيروان، خذوا شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى إلا القيروان فخذوها حينئذ. فقالوا: إنك لشيخ العرب وأميرها وأنت المقدم علينا، ولسنا نقطع أمراً دونك.
ثم قدم أمراء العرب إلى المعز، فأكرمهم وبذل لهم شيئاً كثيراً، فلما خرجوا من عنده لم يجاوزه بما فعل من الإحسان، بل شنوا الغارات، وقطعوا الطريق، وأفسدوا الزروع، وقطعوا الثمار، وحاصروا المدن، فضاق بالناس الأمر، وساءت أحوالهم، وانقطعت أسفارهم، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط، فحينئذ احتفل المعز، وجمع عساكره، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومثلها رجالة، وسار حتى أتى جندران، وهو جبل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام، وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس، فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك، وعظم عليهم، فقال لهم مؤنس بن يحيى: ما هذا يوم فرار، فقالوا: أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزاغندات والمغافر؟ قال: في أعينهم، فسمي ذلك اليوم يوم العين.
والتحم القتال، واشتدت الحرب، فاتفقت صنهاجة على الهزيمة، وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم، ويقتل أكثرهم، فعند ذلك يرجعون على العرب، فانهزمت صنهاجة، وثبت العبيد مع المعز، فكثر القتل فيهم، فقتل منهم خلق كثير، وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب، فلم يمكنهم ذلك، واستمرت الهزيمة، وقتل من صنهاجة أمة عظيمة، ودخل المعز القيروان مهزوماً، على كثرة من معه، وأخذت العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره، وفيه يقول بعض الشعراء:
وإن ابن باديس لأفضل مالك، ** ولكن لعمري ما لديه رجال

ثلاثون ألفاً منهم غلبتهم ** ثلاثة ألف إن ذا لمحال

ولما كان يوم النحر من هذه السنة جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس وسار إلى العرب جريدة، وسبق خبره، وهجم عليهم وهم في صلاة العيد، فركبت العرب خيولهم وحملت، فانهزمت صنهاجة، فقتل منهم عالم كثير.
ثم جمع المعز وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جميع كثير، فلما أشرف على بيوت العرب، وهو قبلي جبل جندران، انتشب القتال، واشتعلت نيران الحرب، وكانت العرب سبعة آلاف فارس، فانهزمت صنهاجة وولى كل رجل منهم إلى منزله، وانهزمت زناتة، وثبت المعز فيمن معه من عبيده ثباتاً عظيماً لم يسمع بمثله، ثم انهزم وعاد إلى المنصورية، وأحصي من قتل من صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة.
ثم أقبلت العرب حتى نزلت بمصلى القيروان، ووقعت الحرب، فقتل من المنصورية ورقادة خلق كثير، فلما رأى ذلك المعز أباحهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء، فلما دخلوا استطالت عليهم العامة، ووقعت بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي وكانت الغلبة للعرب.
وفي سنة أربع وأربعين بني سور زويلة والقيروان، وفي سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان، وملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة، وأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم من العرب.
وشرعت العرب في هدم الحصون والقصور، وقطعوا الثمار، وخربوا الأنهار، وأقام المعز والناس ينتقلون إلى المهدية إلى سنة تسع وأربعين، فعندها انتقل المعز إلى المهدية في شعبان، فتلقاه ابنه تميم، ومشى بين يديه، وكان أبوه قد ولاه المهدية سنة خمس وأربعين، فأقام بها إلى أن قدم أبوه الآن.
وفي رمضان من سنة تسع وأربعين نهبت العرب القيروان.
وفي سنة خمسين خرج بلكين ومعه العرب لحرب زناتة، فقاتلهم فانهزمت زناتة وقتل منها عدد كثير.
وفي سنة ثلاث وخمسين وقعت الحرب بين العرب وهوارة، فانهزمت هوارة وقتل منها الكثير.
وفي سنة ثلاث وخمسين قتل أهل تقيوس من العرب مائتين وخمسين رجلاً، وسبب ذلك أن العرب دخلت المدينة متسوقة، فقتل رجل من العرب رجلاً متقدماً من أهل البلد لأنه سمعه يثني على المعز ويدعو له، فلما قتل ثار أهل البلد بالعرب فقتلوه منهم العدد المذكور.
وكان ينبغي أن يأتي كل شيء من ذلك في السنة التي حدث فيها، وإنما أوردناه متتابعاً ليكون أحسن لسياقته، فإنه إذا انقطع وتخللته الحوادث في السنين لم يفهم.

.ذكر عدة حوادث:

فيها سار المهلهل بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك، فأحسن إليه وأقره على إقطاعه، ومن جملته السيروان، ودقوقا، وشهرزور، والصامغان، وشفعه في أخيه سرخاب بن محمد بن عناز، وكان محبوساً عند طغرلبك، وسار سرخاب إلى قلعة الماهكي، وهي له، وأقطع سعدي بن أبي الشوك الواندين.
وفيها قبض المستنصر بمصر على أبي الربركات عم أبي القاسم الجرجرائي، واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، ويازور من أعمال الرملة.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وفيها، في شعبان، توفي أبو الحسن علي بن عمر القزويني، الزاهد، وكان من الصالحين، روى الحديث، والحكايات، والأشعار، وروى عن ابن نباتة شيئاً من شعره، فمن ذلك قال ابن نباتة:
وإذا عجزت عن العدو فداره، ** وامزج له، إن المزاج وفاق

فالنار بالماء هو الذي هو ضدها ** تعطي النضاج وطبعها الإحراق

وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو القاسم عمر بن ثابت النحوي الضرير، المعروف بالثمانيني. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة:

.ذكر نهب سرّق والحرب الكائنة عندها وملك الرحيم رامهرمز:

وفيها، في المحرم، اجتمع جمع كثير من العرب والأكراد، وقصدوا سرق من خوزستان، ونهبوها، ونهبوا دورق، ومقدمهم مطارد بن منصور، ومذكور بن نزار، فأرسل إليهم الملك الرحيم جيشاً، ولقوهم بين سرق ودورق، فاقتتلوا، فقتل مطارد وأسر ولده، وكثر القتل فيهم، واستنقذوا ما نهبوه، ونجا الباقون على أقبح صورة من الجراح والنهب، فلما تم هذا الفتح للملك الرحيم انتقل من عسكر مكرم متقدماً إلى قنطرة أربق، ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما.
ثم إن الأمير أبا منصور، صاحب فارس، وهزارسب بن بنكير، ومنصور بن الحسين الأسدي، ومن معهما من الديلم والأتراك، ساروا من أرجان يطلبون تستر، فسابقهم الرحيم إليها، وحال بينهم وبينها، والتقت الطلائع، فكان الظفر لعسكر الرحيم.
ثم إن الإرجاف وقع في عسكر هزارسب بوفاة الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار بمدينة شيراز، فسقط في أيديهم وعادوا، وقصد كثير منهم الملك الرحيم فصاروا معه، فسير قطعة من الجيش إلى رامهرمز، وبها أصحاب هزارسب، وقد أفسدوا في تلك الأعمال، فلما وصل إليها عسكر الرحيم خرج أولئك إلى قتالهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثر فيه القتل والجراح، ثم انهزم أصحاب هزارسب فدخلوا البلد وحصروا فيه، ثم ملك البلد عنوة، ونهب وأسر جماعة من العساكر التي فيه، وهرب كثير منهم إلى هزارسب، وهو بإيذج، وملك الملك الرحيم البلد في ربيع الأول من هذه السنة.

.ذكر ملك الملك الرحيم إصطخر وشيراز:

في هذه السنة سير الملك الرحيم أخاه الأمير أبا سعد في جيش إلى بلاد فارس.
وكان سبب ذلك أن المقيم في قلعة إصطخر، وهو أبو نصر بن خسرو، وكان له أخوان قبض عليهما هزارسب بن بنكير بأمر الأمير أبي منصور، فكتب إلى الملك الرحيم يبذل له الطاعة والمساعدة، ويطلب أن يسير إليه أخاه ليملكه بلاد فارس، فسير إليه أخاه أبا سعد في جيش، فوصل إلى دولتاباذ، فأتاه كثير من عساكر فارس الديلم، والترك، والعرب، والأكراد، وسار منها إلى قلعة إصطخر، فنزل إليه صاحبها أبو نصر، فلقيه وأصعده إلى القلعة، وحمل له وللعساكر التي معه الإقامات والخلع وغيرها.
ثم ساروا منها إلى قلعة بهندر فحصروها، وأتاه كتب بعض مستحفظي البلاد الفارسية بالطاعة، منها مستحفظ درابجرد وغيرها، ثم سار إلى شيراز فملكها في رمضان، فلما سمع أخوه الأمير أبو منصور، وهزارسب، ومنصور بن الحسين الأسدي ذلك ساروا في عسكرهم إلى الملك الرحيم فهزموه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وفارق الأهواز إلى واسط، ثم عطفوا من الأهواز إلى شيراز لإجلاء الأمير أبي سعد عنها، فلما قاربوها لقيهم أبو سعد وقاتلهم فهزمهم، فالتجأوا إلى جبل قلعة بهندر، وتكررت الحروب بين الطائفتين إلى منتصف شوال، فتقدمت طائفة من عسكر أبي سعد فاقتتلوا عامة النهار ثم عادوا، فلما كان الغد التقى العسكران جميعاً واقتتلوا، فانهزم عسكر الأمير أبي منصور، وظفر أبو سعد، وقتل منهم خلقاً كثيراً، واستأمن إليه كثير منهم، وصعد أبو منصور إلى قلعة بهندر واحتمى بها، وأقام إلى أن عاد إلى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ولما فارق الأمير أبو منصور الأهواز أعيدت الخطبة للملك الرحيم، وأرسل من بها من الجند يستدعونه إليهم.